إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 25 أغسطس 2013

تقنية التصوير بالقفز ( ٢ ) في شعر عبد الكريم أبو الشيح ... نص " لذيذ هواك " نموذجا .....بقلم: مصطفى محمد عليّ


تقنية التصوير بالقفز ( ٢ ) في شعر عبد الكريم أبو الشيح ... نص " لذيذ هواك " نموذجا






التصوير بالقفز - ٢ -
في شعر عبد الكريم أبو الشيح
نص " لذيذ هواك " نموذجا
                                                                     بقلم:  مصطفى محمد عليّ
في قراءة يسيرة رشقتها هناك ...
بين يدي نص ٍ للشاعر الكبير محمود النجار بعنوان " تراكم " أسميتها " التصوير بالقفز "
رصد صاحب القراءة ظاهرة فنية تعتمد على الانطلاق من العادي ( في أي من أشكاله الأولية ) إلى الغريب المراوغ ،
ولعل هذا - دون أن أعيد الكلام الذي سقته هناك - أحد أسرار المعادلة الشعرية الصعبة والتي اعتمد عليها النجار ببراعة .
أقول " في براعة " لأن الشاعر إذا اتكأ على الصورة المألوفة وحدها جاء نصه غير مبهر ، ومات الوهج قبل أن يتولد فيه !
أما إذا كانت الغرابة - التي هي عند الشعراء الكبار رحم الإدهاش - وحدها في النص جاء موغلا في الاكتناز والغموض ،
واحتيج معه إلى أعتى العتاة من السحرة والمشعوذين لفك طلاسمه ، إذ قد رمى الشاعر بمفاتيح نصه في بئر ملعونة قديم .
فمن يكلف نفسه ؟ ومن ذا يطيق ؟
والنص الذي ألمحت إليه للشاعر محمود النجار والنص الذي بين أيدينا للشاعر عبد الكريم ( أبو الشيح ) يحققان - بطرق مختلفة - هذه المعادلة الصعبة ، فتبقى الصلة بين ما يقولان و القارئ الجاد المدرب ، فالشاعر لا يكتب الشعر ليستحث به جلد البعران في الصحراء ، ولكن ليصل مع قارئه إلى درجة من المتعة والنشوة والتقدير يحتاج إليه كل من يعيش الحياة .
والناقد حين يرصد ظاهرة فنية فيستشهد لها بنص ثانٍ كهذا النص الجميل الذي بين أيدينا
لا يعني أن النصين متشابهان ، ولا أن مقومات النبوغ التي يلمسها عند تحليله للنصين من لحم لسان واحد !
ولكن بحسبه أن يشير إلى الأداة المستخدمة عند كل صانع ، والكيفية التي حرك بها كل فنان أداته ، ألا ترى النجارين الماهرين يستخدمان في الحفر على الخشب ( إزميلا ) واحدا ، ليتشكل الخشب بعد ذلك إلى لوحتين فنيتين متفردتين ؟

ومن النجار الذي هناك إلى النجار الذي هنا ...

يمسك الشاعر بتقنية " التصوير بالقفز " بطريقة يكاد معها القارئ يحدث له نوع من التنويم من فرط نعومة الكلمات !
فالتعبير " لذيذ هواك " يبدو للوهلة الأولى تعبيرا عاديا ، لكنه يختلف قطعا عن " هواك لذيذ " إذ يفتقد الأخير إلى الوهج الذي بثه الشاعر حين لجأ إلى حيلة مباحة من حيل الشعراء وهي حيلة التقديم والتأخير ، ورغم بساطة النقرة ، ورغم بساطة القفزة ... إلا أن الطعوم لمن يُحْسن التذوق جاءت مختلفة ، ولو خيرتَ مَن يحسن فن الكلام لاختار ما فطن إليه الشاعر .

وتتوالى الصور الجميلة الموحية بعد هذه القفزة اليسيرة ، ولكن بنفس الطريقة ، حين تنطلق من المألوف ( الأقل دهشة ) إلى المكتنز بالدهشة والجمال ، تأمل معي هذا المقطع :
لذيذ هواكْ
كسرّ أسرّت به مقلتاكْ
كبوح الخزامى
إذا ما تندّى صباحا ببوح نداكْ
لذيذ
كما لا سواكْ
كمرطِ يشفّ
يشي لي بما في حماكْ ؛
ظباءٍِ.........
أواري يُطوّفنَ بالخمر عِيناً
ويرقصنَ حيناً
على نغمة من هديل الحمام الذي في رباكْ

فالشاعر يحدثنا عن هوى الحبيب اللذيذ ، وهذا لا غرابة فيه إلا بقدر ما أحدثه فينا طعم التقديم والتأخير ، لكنه ما يلبث أن يضفي على هذه اللذة نوعا من الجلال والغموض حين يجعلها سرا من الأسرار ، فيشتهي القارئ أن يتعرف نكهتها ، أو يذوق عسيلتها ، ويبدأ الشاعر في قفزة جديدة راكزا الزانة في الأرض حين يقيد السر بوثاق المقلتين :
كسر أسرت به مقلتاك
فينبي عن صورة مكرورة حين يتمثل العامة هذا المعنى في قولهم : " لغة العيون " و " للعيون أسرار " و " أسرار الحدق " وهذا باب واسع لمن أراد الاستشهاد ببعض ما ورد فيه ، فالشاعر أحمد شوقي حين يقول في قصيدته الشهيرة التي مطلعها ( خدعوها بقولهم حسناء ) :
نظرة فابتسامة فســـلام ٌ *** فكلامٌ فموعدٌ فلقـــاءُ
وقوله :
يوم كنا ولا تسل كيف كنا *** نتهادى من الهوى ما نشاء
وقوله :
وعلينا من العفافِ رقيـبٌ *** تعبت في مراسه الأهـواءُ
جاذبتني ثوبي العصي وقالت *** أنتم الناس أيها الشعـراءُ
فالشاعر الأمير يرتب أمامنا ( وهذا ما يعنينا ) في لغة مكثفة :
"
نظرة فابتسامة فسلام " وحين يعلق - في بيت تالٍ - الداء على نظرة من الحبيب والدواء على نظرة منه إنما كان ينطلق من الحس اللغوي الجمعي المستسلم لهذا المعنى ، بمعنى أنه يلوك ما لاكوه من قبلُ شعرا ونثرا وينطلق منه ، وعلى نحو من ذلك يرتكز الشاعر ( عبد الكريم أبو الشيح ) الذي ما يلبث أن يظفر بهذه القفزة الرائعة حين يقول :
كبوح الخزامى
إذا ما تندّى صباحا ببوح نداكْ
فيجعل ما كان سرا بوحا ، ليتوهم القارئ أنه قد أوشك على الوصول ، ليدرك بعد قليل أنه قد أشفى على الغرق ، فالبوح - الذي يوحي بالإفضاء ليس إلا بوحا - من لغة الزهور ( الخزامى ) أي هو في الحقيقة سر جديد .
حتى قطرات الندى ( والتى ليس بغريب معجب أن يذكر معها وقت " صباحا "، إلا مجرد الاستغراق في متعة الصورة ) يجعلها الشاعر متندية " ببوح نداك " قافزا بها قفزة ثالثة .
وفي الوقت الذي استغل فيه الشاعر ببراعة أداة التقديم والتأخير في الصورة الأولى " لذيذ هواك "نجده ينوع في تكرار الصورة نفسها ليشد المقطع كله إلى نفس المحور :
لذيذ
كما لا سواك
ويختم الشاعر المقطع بعزف من هديل الحمام ، ورقص الكائنات البرية النافرة ، وهذا كله - على ما فيه من جمال - يعد بمثابة ارتكاز لقفزة مبهرة لا غير إذ تصيبنا الدهشة حين يتنامى هذا المشهد الهزيج " في ربا حبيبه " والذي أحاطه منذ قليل بمرط شفيف يخفي ويبدي ، لكنه لا يسمح لنا باللمس على كل حال ، فما خلف المرط من هضاب وربوات حماه الشاعر بقوله :
في حماكْ
بكل ما توحي به الكلمة من المنعة والعصمة والإباء بحيث لا ينال القاصد النهوم من الحبيبة الغامضة إلا بقدر ما تسمح به من عطاء .

غير أن الشاعر قد يركن زمنا إلى لحظة الارتكاز فيمل القارئ الشغوف قليلا ، فيقع الشاعر في التكرار القصير :
دمي في رضاكْ
دمي قد أتاكْ
بما في الصورتين من الإحكام غير الكامل ، إذ تبقيان في سياقهما أكثر حظا من التشوش وأقل قدرة على تعميق ذات الشعور ، وينطفئ الوهج الشعري كذلك بعض الشيء حين يطرح الشاعر هذا السؤال علي محبوبه الغامض :
فمن ذا حماكْ
ـ بحقّ الذي قد براكْ
وليت الشاعر ما توسل وباشر المحبوبة بالقسم ! - على جلال القسم عندي أقول هذا احتياطا -، فمن التراتب النثري أن نقول ردا على السؤال : أيها الشاعر الكبير !
لم أطفأت وقدة الغموض التي ظللت ليلتك تنفخ فيها ؟ لا بأس !
فالذي حمى محبوبتك هو من قد برأها .
وهكذا على مهل تذبل كلمة " حماك " هنا ذبولا بعد نضرتها وزهوها في المقطع الأول إذ كانت تنبض هناك بالسحر والظلال !
فضلا عن الوخزة المؤلمة التي ما ترفق الشاعر حين أضر بها بسحر الجمال البهي لحبيبته :
وجدّد فيك الجمال البهيّ
بما توحي به لفظة " جدد " من إيحاءات سلبية ستغضب الحبيبة حتما لو كانت عالمة بفنون الكلام !
فاللفظ الواخز " جدد " يناقض ديمومة البهاء ، بل ويضفي على المحبوبة - في لحظة من الزمان - ضد ما وصفها به من جمال !
فتجديد صفة الجمال تعني أنها لم تكن ملازمة لحبيبته منذ برأها الله ، ولذا فقولة " جدد " لا تضاهي " خلق " أو " برأ " أو " صوّر " ولا حتى " صيّر " - على ضعفها - فجملة الأفعال التي ذكرنا توحي بطبع الصفة في الحبيب منذ لحظة التكوين .
أما عبارة :
وفاض ابتهلا إلى منتهاكْ
فلعل الشاعر لم يقصد " ابتهلا " وإنما " ابتهالا " لا نعاتبه ولا نعذره .
ولا أتوخى الحذر فأنهي كلماتي بمجاملة تخفف حدة ما قلت ، ولكن شاعرنا يستحق الثناء طالما كان شعره على هذا القدر من العذوبة وإكساب المتعة وتلوين الجمال !




 


 
 
النص:
 
لذيذ هواكْ
كسرّ أسرّت به مقلتاكْ
كبوح الخزامى
إذا ما تندّى صباحا ببوح نداكْ
لذيذ
كما لا سواكْ
كمرطِ يشفّ
يشي لي بما في حماكْ ؛
ظباءٍِ.........
أواري يُطوّفنَ بالخمر عِيناً
ويرقصنَ حيناً
على نغمة من هديل الحمام الذي في رباكْ
لذيذٌ
كقرط  يهسُّ
يُسرُّ النّجاء مساءً
ويدعو دمي للصلاةْ
على رفرفٍ من ضياكْ
دمي في رضاكْ
دمي قد أتاكْ
كما قد أمرتَ ............
توضّا بماء القوافي
وأسرج صبحاً ..
لكيما يوافي إليك بنذرٍ.....
بنجمٍ تشذّى على راحتيه ضياءً
وفاض ابتهلا إلى منتهاكْ
هناكْ
على عتبة الحلم ألقى ...
خواتيمــهُ وارتضـــــاكْ
نديما
تُساقيه طورا نبيذا
وطورا....
تحــاســيـه عذباً لمـاكْ
فمن ذا حماكْ
ـ بحقّ الذي قد براكْ
وجدّد فيك الجمال البهيّ
لتبقى الغوايةَ أنتَ ........وأبقى الغويُّ ،
ومن ذا نهاكْ
بأن لا تنيل لصبّ
تشهّى نبيذ الشفاهِ
جــنى مُشـتهـاكْ