حاوره: أحمد الخطيب - يعتبر الشاعر عبد الكريم أبو الشيح المنجز الإبداعي لأي شاعر إنما يُمر في نقاط التماس ما بين الذات الشاعرة والوجود، و يؤكد صاحب المجموعات الشعرية « إياك أعني، كومة أحلام، ودوائر الجنون»، أنّ الذات لا تتحقق فعلياً إلا في حالة قدرتها على إيصال شيفرة الرسالة/النص إلى المتلقي.
الشاعر أبو الشيح لا يركن للقياس الأول للنص الشعري، وهو دائم التنقيب عن فواصل جديدة تتعدى حدود النص الاعتيادي، لهذا تراه يستنفر المعلومة اليومية، والحوارات الجانبية التي تسترقها أذنه وهو في طريقه إلى منازلة النص بصفته الفجائية، إلى ذلك هو سليل دوحة الشعر السردي بقطبيه العمودي والتفعيلة.
لمزيد من المعارج التي ينتدبها لنصه الشعري، وفقه رؤيته للحياة وتحولاتها، كان هذا الحوار:

* ثلاث مجموعات شعرية، والعديد من القصائد المتناثرة هنا وهناك، من هو عبد الكريم أبو الشيح في ظلال هذه المجموعات والقصائد؟.
سؤالك جَدُّ خطير ومربك ،هو سؤال مشاكس، يحفّز المسؤول على أن ينفصم للحظة ليطلَّ على آخره المسافرِ في ظلال الحروف ويترجمه، قد توافقني، فالمسالة ليست سهلة، وبشكل من أشكال المجازفة استطيع أن أقول بأن عبد الكريم أبو الشيح يعيش أحوال الكلام بكل معاناتها ليصل إلى مقام القصيدة/مقام الشعر؛ حيث هناك وهناك فقط ينعتق من ذاته الخاصة الطاعنة في اليوميّ المعيش، ليتحد بالكلمة بكل تجلياتها وغوايتها،الكلمة بكل ما لها من قداسة ..لذلك أراه يولد مع كل قصيدة يكتبها كأنما الآن بدأ... وربما هو كحال كلّ شاعر يسعى في ارتحاله في معارج الكلام إلى الاكتمال ،ولكنه أبداً لا يكتمل ،أو ربما هو شرفة يطلُّ منها على عالم يراه ناقصاً فيحاول أن يعيد صياغته ..ليكمله كما يشتهي..بالمجمل هو يعاين الوجود من زاويته ..يحاول أن يتكامل به في لحظة الكتابة ..وفي هذا السياق أختم بأن المنجز الإبداعي لأي شاعر إنما يُمرئي نقاط التماس ما بين الذات الشاعرة والوجود، هذه النقاط التي هي بالذات لحظات التوتر الإبداعي..لحظات الكشف/الشعر.

* شعرك يقع في منطقة إيقاعية وسطى، تتلمس فيها خليطاً موسيقيا بين العمود والتفعيلة، مقابل منطقة يختلط فيها الوضوح بالغموض الشعري، السردية بالمتخيل الشعري، هل يجيء هذا لإشباع الذات الشاعرة وذات المتلقي معاً، أم هي أسلوبية وفرتها الموهبة والتجربة؟
هذه قضية من الصعب الفصل فيها بين الأسلوب والذات الشاعرة ،فكما يقال أنّ الأسلوب هو الفرد ،فالأسلوب ورغم كل الدراسات التي تناولته إلا أنني أرى أن فيه شكلاً من أشكال الاختيار بما يحقق الذات الشاعرة في لحظة تخلّق النص، ولا يمكن أن تتحقق الذات فعلياً إلا في حالة قدرتها على إيصال شيفرة الرسالة/النص إلى المتلقي بذات الوهج الذي كان لحظة تخلقه على يد مبدعه الأول أو قريباً منه، ليغدو المتلقي وبناء على ثقافته وبنائه النفسي والفكري مبدعا ثانياً للنص يحقق به ذاته، وربما هنا سر خلود بعض النصوص، أقصد قروئيتها؛ أي أنها قابلة للقراءة المتجددة.
أما بالنسبة للموهبة والتجربة فلا غنىً للمبدع عن واحدة منهما، فبالتأكيد لن تجد شاعراً بلا موهبة وإن ادعى الكتابة وحتى لو وَجد من يصفق له، فالموهبة هي العتبة الأولى للشاعر، لذلك فالشعر دائرة مَن يُولد خارج محيطها لن يتمكن من دخولها مهما امتلك من المعرفة والثقافة ، ومن يولد داخلها فلن يكفيه ذلك إن لم يأخذ بتطوير أدواته وإغناء تجربته ..فالتجربة والخبرة والصدق بالتأكيد هي شرط للنمو والاستمرار والتميّز.

* كيف تنظر إلى الشعر في زمن الربيع العربي والتحولات التي أصابت كلّ شيء، وهل للشعر نصيب من هذه الشرارة، وهل ما زلنا في حاجة إلى الشعر ؟
سأبدأ الإجابة على سؤالك من نهايته فأقول: نعم، ما زلنا بحاجة للشعر، ولن تنقطع هذه الحاجة، إذ هو المرآة التي تتجلى عليها كل تفاعلات وجودنا بشكل جماليّ، فالشعر كما الفن عموماً وهو ضرورة إنسانية منذ رسم الإنسان على جدران الكهف ورقص حول النار...،
والشعر في زمن الربيع العربي تأثر بالتأكيد، وإن كان هذا التأثر لم يشكل ظاهرة للآن، وهذا منطقي وطبيعي من وجهة نظري على الأقل، فالثورات العربية بدأت بشكل أذهل وفاجأ الجميع بما فيهم الشعراء، فوقف الكل مشدوهاً أمام الأحداث وتواليها، ونرى الشعراء خصوصاً في بداية هذا الربيع وربما للآن في ثلاثة مواقع ؛ فمنهم من وقف مع الثورة وكتب لها، ولكن حتى شكل الكتابة عند هؤلاء أخذ طابع الخطابية المباشرة بعيداً عن الاعتناء بالتقنيات الفنية، وفي مثل هذه المواقف فهذا طبيعي حيث هدف الرسالة/القصيدة دعويّ حماسيّ وموجّه لفئة تهتم بمضمون الرسالة أكثر من شكلها في هذا الظرف، أما الفئة الثانية في رأيي وهي الغالبة فهي التي تترقب ما ستسفر عنه الثورات وهذه يتنازعها التوق للتحرر والخوف من المؤامرة، وفئة ثالثة وإن كانت الأقل نسبياً وقفت ضد ما يجري وأسبابها متباينة . وأرى أن ما يحدث لا بدّ وأن يؤثر على الشعر وكيفية تعاطيه إن إبداعاً وإن تلقياً، فالتحولات في أي مجتمع لا بدّ وأن تنعكس على الفن عموماً والشعر خصوصاً .

* مشاركتك الأخيرة في مهرجان جرش، ماذا أردت منها، وماذا قدمت لك؟
ما أردته من مشاركتي في جرش هو ما يريده كلّ شاعر يرى أنّ للكلمة دورَها في رسم ملامح المستقبل ،وبالتالي فهي أمانة عليه أن يبلغها، إضافة لضرورة التفاعل سواء مع الشعراء أو المتلقين بما يساعد الشاعر على تطوير وسائل اتصاله وأدواته الفنية، أما ما قدمت لي هذه المشاركة فهو أنني كنت بصحبة شعراء وجمهور يبعث النشوة في الروح ويزيد من ألق الكلام ووهجه ويفتح له فضاءات رحبة من الجمال.

* هل كمّ الجمهور القليل نسبياً تراه طبعياً، أم فقدان لجمهور الشعر، وبالتالي انحسار لزمن الشعر؟
سؤالك هنا صديقي يعيدنا لكلامنا في سياق سابق ،هل ما زلنا بحاجة للشعر؟ وقلنا إن الشعر ضرورة إنسانية بصرف النظر عن شكله، ومن هنا فإن العلاقة ما بين الشعر والجمهور علاقة عضوية حيوية إذ الجمهور/المتلقي هو كما قلنا منتج آخر للنص، فالشاعر لا يكتب لذاته وإنما يكتب ويتوجّه فيما يكتب لمتلق سواء أكان معيّناً أم افتراضياً، ومن هنا فلا بد من أن تكون الشيفرة التي تختزنها لغة الشعر قابلة للانفتاح على المتلقي ليكون قادراً على التواصل معها، ولا أعني هنا أن تكون لغة مسطحة مباشرة وسهلة فهذا بالتأكيد يفقد الرسالة المستوى الجمالي الذي هو الفيصل بين الشعرية وبين الكلام في بعده التواصلي الاجتماعي (البرغماتي)، وما نراه أو نحسه من قطيعة بين الشعر والجمهور هو في رأيي كائن بين نمط من الشعر وبين الجمهور، وأقصد هنا الشعر الذي يفتقد مفاتيح التواصل مع متلقيه وبالتالي يصبح شكلاً من أشكال اللغو الذي يمجه المتلقي. ولا بد في هذا الصدد أن نفرق بين فقدان الجمهور وقلة الجمهور المهتم بالشعر نسبياً، فكمّ الجمهور القليل نسبياً أراه طبعياً، فلم يكن الشعر جماهيرياً بالمعنى الانتشاري لهذه الكلمة في أي عصر من العصور، إذ الشعر من طبيعته نخبوي باستثناء نماذج قليلة جداً وحتى هذه فطبيعة جماهيريتها إنما تعود في رأيي لعوامل خارجة عن الشعر ..أرى أنها تعود لمضمون الرسالة التي يحملها في لحظة تاريخية ما وخذ أمثلة من العصر الحديث فنزار قباني، مظفر النواب، محمود درويش، كل منهم ساهمت الظروف وطبيعة الرسالة خارج دائرة الشعرية في انتشاره جماهيرياً، بخلاف سليم بركات مثلاً أو أدونيس، قاسم حداد ،..وجميعهم، هؤلاء وهؤلاء، على سويّة عالية فذة في عالم الشعر .
ورغم ذلك فهذا زمن الشعر وكل زمن هو زمن للشعر وانظر لتستدل على ذلك إلى مواقع التواصل الاجتماعي تراها زاخرة بالشعر سواء منه ما كان ناضجاً أي شعراً ما زال في طور المحاولات ...

* بعد دوائر الجنون ديوانك الأخير، هل حددت معالم الديوان الجديد، وما هي مداراته؟
بعد دوائر الجنون هناك مجموعة جاهزة للطباعة بعنوان (السفر في مدارات الوجود) وهي تسبح في مدارات مختلفة للوجود تعاينه من زوايا متعددة بحثاً عن لحظة صفاء في ركام هذا الألم.