المجذاف
د.نزار بريك هنيدي
-1-
لا يَترُكُ المجذافَ..
عَيناهُ على الأفقِ البَعيدِ،
و قلبُهُ يَتَصَيَّدُ الأقمارَ،
حينَ تطلُّ مِنْ شرفاتها
مفتونةً،
بالزورقِ المَحْمولِ فوقَ مناكبِ الأمواجِ،
في عرسِ الرحيلْ.
أحزانُهُ نُدَفً يُبَعْثِرُها رفيفٌ غامضٌ،
و رؤاهُ أسرابً تحوّمُ
في فضاءاتِ الذهولْ.
كلماتُهُ ترعى إشاراتِ المَدى
و تعبُّ مِنْ قَطْرِ الندى
لترشَّ أهدابَ الفصولْ .
-2-
لا يتركُ المجذافَ..
يَعْبثُ بالرَذاذِ و بالزمانِ،
يُعاكِسُ التيّارَ و الأحلامَ،
يَلهو بانكسارِ الضوءِ و الرغباتِ،
يَحتضِنُ اْنفجاراتِ الكواكبِ و المشاعرِ،
يَحتفي
بأشعّةِ الشمسِ التي تفضي إليهِ بسرّ نشوتِها
إذا اْستلقتْ
على جَسَدِ الأصيلْ.
يَحنو على نَجمٍ هَوى مِنْ بُرْجِهِ،
فتلقَّفتهُ حمامةٌ بجناحها
حتّى استكانَ،
فراحَ يَلْهَجُ بالهَديلْ.
و يذوبُ وَجْداً،
إنْ رأى بَرْقاً يُراوِدُ غَيْمَةً عَنْ نفسِها،
حتى تفيضَ،
فتغمرُ الدنيا بأفراحِ الهطولْ.
و يطيرُ خلفَ نوارسٍ،
سَئِمَتْ رتابةَ عالمِ الشطآنِ،
فانطَلَقتْ
تفتّشُ
عَنْ بديلْ.
-3-
لا يَترُكُ المجذافَ
كانَ بوسْعِهِ أن يَسْتكينَ إلى الهدوءِ،
و أنْ يُرَوّضَ روحَهُ،
كي تستطيعَ العَيْشَ في دِعَةٍ،
و كانَ بوسعهِ،
منذُ البدايةِ،
أن يُهَيّءَ نفسَهُ للنومِ في قبرِ السهولْ.
لكنّهُ اختارَ الحياةَ،
و لا حياةَ
إذا تقمّصَ جلدَ حَرْباءٍ،
و رأسَ نعامةٍ،
و ارتاحَ في ظلّ النخيلْ.
-4-
منذ البدايةِ كانَ في أعماقِهِ
مهرٌ جَموحٌ
لا يكفٌّ عَنِ الصَهيلْ.
و فراشةٌ حَمْقاءُ
لا تهوى سوى لَمْحِ الجَمالِ،
و لو تخبَّأ في جفونِ المستحيلْ.
و بَراعِمٌ تزهو
بأنَّ يَفاعَها الأبديَّ،
لا يَخشى النوائبَ،
أو يُهَدّدُهُ ذبولْ.
و جرارُ أحلامٍ،
إذا اْنسَكَبَتْ على الجَوزاءِ،
أغرقتِ المَجَرَّةَ
بالسيولْ .
-5-
منذُ البدايةِ كانَ يَعرفُ أنَّهُ
مِنْ نسلِ ريحٍ ،
لا يَقرَّ لها مقامٌ،
أو تحدّدُها تخومٌ،
أو تسيرُ على دليلْ.
لا يَنتمي
إلاّ إلى النورِ الذي يَتخلَّلُ الأشياءَ،
يكشفُ سرَّ جَوْهَرِها النبيلْ.
أقرانُهُ :
البحر الذي لا يَعْتريهِ الضيقُ،
و النارُ التي لا تستضيءُ
بغيرِ وَهْجِ فؤادِها،
و الليلُ
حينَ يَضمُّ أضدادَ الوَرى
في ثوبِهِ الداجي الجَليلْ.
-6-
منذُ البدايةِ
كانَ يَبحثُ عَنْ سَبيلْ،
ليقولَ ما يَحيا
و يَحيا ما يَقولْ.
فاستلَّ مجذافَ الكلامِ،
مِنَ الصدى
و مِنَ الركامِ،
و راحَ يُبْحِرُ في شرايينِ الوجودِ
مُيّمّماً
شَطْرَ الأصولْ.
-7-
لَنْ يَتركَ المجذافَ
ما زالت دروبُ حياتِهِ حبلى.
فكيفَ يَغيبُ عَنها
أو
يُغَيّبُها،
إذا
بَهَرَتهُ أنوارُ الوصول ؟ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق