إيقاع الشعر..إيقاع الحياة
قراءة في ديوان (دوائر الجنون) لعبد الكريم أبو الشيح

إيقاع الشعر..إيقاع
الحياة
قراءة في ديوان
(دوائر الجنون) لعبد الكريم أبو الشيح
_______________________________________________________________________________
بقلم
نضال
القاسم
إن للتجريب الشعري،شكلاً ومضمونا أهمية
كبيرة في الإبداع المتميز المتنامي والمعاصر،وما من شاعر عظيم أو روائي عظيم إلا
وقد أضاف من خلال التجريب بعداً جديداً إلى الفن الشعري والروائي،وأثبت انه غير
خاضع وغير مستسلم لكل المواصفات السائدة والمألوفة.فالتجريب إذاً ومحاولة الإضافة
نزعة صحية وضرورية في كل فنان أصيل وفي كل كاتب موهوب،وفي كل شاعر يريد أن يضيف إلى
التراث ولا يكرره أو يقلده.
وإن مهمة الرؤية الحديثة إحداث الجديد في
الأنظمة القوالبية الموروثة:في الشكل الشعري،في القافية،في الوزن،وفي
الموسيقى،وبالتالي في المضمون نفسه،ولها دورها في تشكيل شعر جديد خصب ومتنام،من أهم
ميزاته انه لا يخضع للتحقيب التاريخي،والتأطير الزمني،باعتباره شعراً منفتحاً على
كل أشكال التطور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي،وعلى كل الزوايا المضيئة في كل
العصور.
ولصوت "عبد الكريم أبو الشيح" في الشعر الأردني المعاصر
خصوصية،قائمة على حشد عناصر الحياة،اليومي العابر والثابت.يحشد العناصر ويرعاها
ويلعب بها ويتداخل كأنّه منها وكأنّها منه.وهو يؤثّث عالمه الشعري بحذق إبداعي
يتوخّى في البدء والمنتهى الاحتفاء بالذات وأسئلتها ومواجعها
وانتظاراتها.
وتندرج قصائد عبد الكريم أبو الشيح ضمن خطاب الشعر
الحر،وترتكز تجربته في ظاهرها على البعد الإيقاعي المباشر للكلمات في قصيدة
التفعيلة،لكنه لم يتمترس خلف هذا البعد،فجعله يتحول في مجموعته الأخيرة (دوائر
الجنون) إلى مظهر هامشي ينسحب تدريجياً ليدع الصورة الشعرية بالتماعاتها الذكية
تحتل متن القصيدة.
وقد تميز عبد الكريم أبو الشيح في هذا الصدد
لما امتاز به من وعي سياسي وثقافي جعله يساهم في إرساء المشروع الشعري الحديث
بالأردن والذي يطغى حالياً على الساحة الشعرية والمتوجه أكثر نحو التخييل وتجاوز كل
الأنماط السائدة.فهو لا يتبع خطى شعراء يستعينون بأكداس
الأشياء ليبنوا قصائدهم،بل يفضّل توظيف هذه الأكداس في مجال حكائي مضمر،في دراما
تشكّل عصب قصيدته،وقد تعلو نبرته أحياناً لتشكّل سرداً صريحاً ولكن، متوتراً
وعصبياً.
وتقدم هذه الدراسة قراءة جمالية في تجربةٍ
شديدة الخصوصية للشاعر عبد الكريم أبو الشيح عبر مجموعته الثالثة،والأخيرة "دوائر
الجنون"،والصادرة عن إصدارات إربد
مدينة الثقافة الأردنية لعام 2007،محتوية 11
قصيدة والتي تشكل منعطفاً لافتاً في مدونة «عبد الكريم أبو الشيح» الشعرية،وذلك
في محاولة جادة لاكتشافَ أنساق متعددة من التشابه
والتناقض والتنافر والتجاذب،حيث تمتزج رؤى الشاعر الراهنة بأناشيد
ذاكرته القصوى،كما بظلال مخيلته،على نحو بديع يعرف كيف يفيد برشاقة من الإيقاع
والتفعيلة،من دون أن يرهقا قصائده.
ولابد من الإشارة بدايةً إلى أن قصائد هذه المجموعة التي
وقعت في حوالي 110 صفحات من القطع
المتوسط،وظهرت بغلاف من تصميم الفنان يوسف الصرايرة لم تتقاطع تماماً في أشكالها
ومضامينها مع قصائد مجموعات الشاعر السابقة،لكنها شفّت عن تطور ملحوظ في رؤاه
وأدواته الفنية وأكدت رهافة حسه الإبداعي.ففي قصيدة: "دوائر الجنون"،نلحظ بوضوح قدرة
الشاعر في التعبير عن تجربة شعرية تهتم ببنية القصيدة وشكلها ووحدتها العضوية
والتصورية والشعورية النامية التي تكتسب دلالاتها العميقة من خلال التأملات النفسية
والشعورية والعاطفية والروحية التي بثها الشاعر في مفاصل القصيدة،لتفجير طاقاتها
الشعرية من خلال البنية التخييلية للقصيدة،وقد قسم الشاعر قصيدته إلى عشرة مقاطع
تعتمد على الومضة الشعرية الساحرة والإيقاع العاطفي المثير.فها هو الشاعر يعلن في المقطع السابع من قصيدته الأولى
(دوائر الجنون) أن الشعر مغامرة،وهو يقول:-
والشعر في فضائه
مجاوزُ لذاته بذاتهِ…
وإنّهُ
مُغامرَةْ…
غزالةٌ ترعى الندى على اكفِّ غيمةٍ
مسافرةْ.
(دوائر الجنون-ص19)
وتحيلنا أولى عتبات المجموعة إلى انشغال الشاعر عبد الكريم
أبو الشيح بتطوير أدواته الفنية،وتدلّنا العتبة الأولى،على تقصد الشاعر البحث في
الشكل الإيقاعي،والذي كان قد بدأه في مجموعته (إياك أعني) الصادرة سنة
2003م،في سياق تجريبي،شمل محاولات
نثرية وتوليد أوزان خاصة به، فضلاً عن إفادته من التراث العربي،والميثولوجيا
الإغريقية والبيان والبديع العربيين،دون التخلي عن غنائيته.فهو يرى أن الشعر الصادق
يفجّرُ السكون،ويصل تأثيره إلى أبعد مدى ممكن في المكان والزمان:-
وإنّهُ الإيقاعُ إذْ يفجّرُ السكونَ في
قرارةِ النواةِ راسماً
أشكالَهُ
تنداحُ في دوائرِ الجنونِ
فاتحاً
شِعابَهُ
إلى محيط الدائرةْ،
والشعرُ ليسَ فيهِ غيرُ الشعرِ إنّهُ
مرآتُهُ
وذاتُهُ
تلكَ التي في ذاتِهِ……..غائرةْ. (دوائر الجنون-ص19)
وبدءاً نلاحظ أن الشاعر احتفظ في عدد من قصائد هذه
المجموعة بطريقة بناء،تقوم بخاصة على الفكرة الجريئة والمفارقة والقفلة الصادمة،مع
تميّز عبد الكريم بروح طفولية عذبة وغنائية جاذبة،وسرد رشيق:-
"حنينٌ إلى الائتلافْ،
وعصفورةٌ تغزلُ العطر فوق الجناحْ
فضاءً لذاتكَ تلك التي في سواكْ
تبدّتْ على رجفةٍ من ضياءْ
مساحة توقٍ
على زقزقاتٍ تلمُّ إليها
سواقي الصباح". (دوائر الجنون- قصيدة
الابتسامة/ص10)
وفضلاً عن حرصه على الوزن والقافية كعنصرين أساسيين لشكل
القصيدة الإيقاعي،فقد برع أبو الشيح في توظيف أنواع البديع،التي لا تتحقق شعرية
نص،أياً كان شكله دونها،مثل الاستعارة والتشبيه والجناس الناقص والتام والمضاف
والتصحيف والمطابقة،فضلاً عن الموازنة بين موسيقا المفردات
وتسجيعها.
كما حافظ الشاعر على ما عرفناه في مجموعاته السابقة من
استخدام لتقنيات المونولوج والحوار،والسخرية السوداء التي تفتقت في هذه المجموعة عن
نصوص فريدة في متانة بنائها وطرافه فكرتها ورشاقة سبكها ونبل دلالتها، مثل قصيدتي
(في البدء كنتُ…وها أنا) ص67،و(
تَعالُق) ص79.
ولأنه شاعر مطبوع وذو خبرة ومهارات عالية،يتدفق نصه سلساً
لا تظهر فيه الصنعة إلا نادراً،مستخدماً بحذق كل ما تراكم من تقنيات قصيدة التفعيلة
الإيقاعية ومضيفاً إليها،مع احتفاظه بوحدتها العضوية.وتحيلنا بعض قصائد المجموعة من مثل
("العشق"،"هي"، و"قهوة") لفاعلية التقنيات والبنية الأسلوبية التراثية والمعاصرة
التي استثمرها الشاعر من أجل بعثه لعوالم شعرية جديدة،تتجلَّى فيها مختلف
الدلالات،والسمات الرؤيوية والثيمية التي تعبِّر عن تعالق الأبنية الدلالية مع
المستويات اللغوية فيها،بما تحمل من ائتلاف وتشاكل وتباين في صيغ الرمز،ومن امتلاك
لحيوية اللغة،وسياقاتها الشعرية حينما تبلغ ذروتها الأدائية والتعبيرية،كما في
قصيدة (قهوة- دوائر الجنون/
ص25)
…………
ومرةً شربتُ قهوةَ الصباحِ في
المساءْ،
لمْ يختلِفْ
عليَّ لونُها بما
يُثيرُ شُبهةً بها..
لمْ يختلفْ
عليَّ طعمُها ولا اشتبه
بما يَشي
بأنَّها حَوتْ
لوناً وماء…
أما على المستوى اللغوي فيعيد الشاعر تشكيل
اللغة من جديد،لتصبح على المستوى الرمزي كائناً آخر لا علاقة للواقع به.إنه على
الأقل بارتكازاته الرمزية يعيد صياغة أحلامنا،الفيزيائية والسرّية،المتشكلة من
الوعي الجمالي المعرفي للذات والكون.فعلاقات الملامح اللغوية التي تتضمنها قصائده
متشابكة فيما بينها،وذات درجة عالية من التراتب والتعالق،وهي علاقات ذات طابع
إيقاعي وصوتي،تؤسس لأعراف النظم والإيقاع من جانب،وذات طابع مرتبط بالأبنية
الدلالية والمجازية وسمات انحرافيَّة أو تكرارية من جانب آخر،وهي تمارس وظائفها
بشكل مرهف دقيق،مرتكز على قوانين الشعرية الجديدة وفاعليتها وقدراتها على الإيحاء
بمدلولاتها النصية واللفظية،كما تبدى لنا ذلك في قصيدته: "دوائر الجنون"،فنحن إزاء
بنية تركيبية بسيطة تتمثل قدراتها على التوارد الدلالي الذي يتسم بالتعدد
والاحتمالات ويفضي إلى الوحدة، ويؤدي إلى تشعير السياق المتوازي من خلال البنية
التعبيرية.
وهكذا استطاع عبد الكريم أبو الشيح أن يجعل
لنصوصه خصوصية تميّزها عن التقنيات الشعرية الأخرى من خلال بنية القصيدة الدلالية
والإيحائية والبنائية والتشكيلية والتركيبية التي تمتاز بها قصائده عن غيرها من
القصائد الحداثية الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق